الثعـبـــان
قصة محمود البدوى
مررت على الشيخ عبد العليم بكر وهو جالس تحت شجرة من شجر النبق قريبا من السكة الزراعية وحوله بعض الفلاحين .. وكان يحاسبهم على مياه " الوابور " فدعانى إلى مجلسه لأشرب القهوة ولأشترك معه فى الحساب .
ولما كنت عطشان وتعبا من المشوار الذى قطعته بالركوبة فقد ملت إلى الظل لأن الحرارة فى ذلك اليوم كانت شديدة والهواء اللافح يشوى الوجوه .. وكانت معى جريدة الصباح اشتريتها من محطة بنى حسين فأخذ الشيخ عبد العليم يقرأ الأخبار ويسألتى عن سبب فتح بورصة القطن .. وعن تعميم مياه الشرب فى القرى وعن الجمعيات التعاونية لمعاونة الفلاح .. وعن المجمع الذى دقوا له الحديد فى شرق البلد ..
وكان الفلاحون يستمعون إلينا ولا يعلقون بشىء على ما نقول .. لأننا فى نظرهم متنورون وهم لايرتفعون إلى مستوانا فى الادراك والفهم .
وتوقف الشيخ عبد العليم عن الحديث ورأيته يرقب شخصا يتخطى مجراة الوابور .. وخلفه خفير الزراعة عبد البصير وعرفت الرجل عندما اقترب فقد كان مأمون عبد الرحمن وكان من خيار الفلاحين فى عزبة الشيخ عبد العليم ومن زراع أرضه .
وابتدره الشيخ عبد العليم بقوله :
ـ أين الفلوس يا مأمون .. ؟
ـ اتفضل ..
ـ والجنيه .. ؟
ـ أنا زارع فـدان وتلت بس على وابورك يا عبد العليم بيه ..
ـ انت زارع فدان ونص .. والدلال قاس زراعتك .. وكمان اسماعيل أفندى .. كل ميه لازم المناكفة دى .. روح هات الجنيه .
ـ معنديش غير دول يا عبد العليم بيه ..
ـ خذ فلوسك ولما تكملهم هاتهم مع بعض .
ـ أجيب منين ..؟ أبيع أولادى ..؟
ـ روح بعلك كيلتين قمح .. ولا نعجة .. ولا عنزتين .. من دا اللى داير ياكل درة الناس ..
ـ أنا معنديش غير دول دا حقك وزيادة ..
ـ بتقول إيه ..؟
ـ حقك .. يا بيه ..
ـ من الصبح حنحجز على زراعتك وجاموستك ..
ـ انتو حتشترونا وتبعونا بأرضكم ووابوركم .. إيه الذل دا ..
ـ بتقول إيه يا كلب ..
ونهض الشيخ عبد العليم وتناول الرجل بعصاه .. ضربه على وجهه وصدره .. ضربا مبرحا .. وابعدناه عنه .. وعاد الشيخ عبد العليم إلى مجلسه وهو لايزال يزمجر من فرط الغضب .. ويهدد المسكين بطرده من العزبة ..
***
وأخذنا نهدىء من فورة الشيخ عبد العليم ونخفف من غضبه بكل الوسائل .. وكانت الشمس قد تجاوزت السمت واشتدت حرارة يوليو .. وبدت كأن السنة النار تخرج من الأرض ..
وكانت الأرض منبسطة أمامنا وجذور القمح لاتزال بادية فى الأرض البور أما الحقول التى زرعت أذرة فقد كانت مخضرة ولا تزال عيدانها الصغيرة تقاوم الحرارة الشديدة والجفاف ..
وكان النيل قريبا .. ولكنه منخفض جدا والأرض عالية فلم يكن الفلاحون يستفيدون من مياهه فى الزراعة ولكنهم كانوا يشربون منه ويرسلون مواشيهم لتشرب وتستحم فيه .. ولهذا عملوا طريقا صغيرا " مدقا " ينحدر إلى النيل تنزل منه النساء لملء البلاليص .. والمواشى لتستحم ..
وكان حسن ابن الشيخ عبد العليم قد هبط مع غلامين من العزبة إلى النيل من هذا المنحدر وأخذوا يلعبون فى الطين ويبنون منازل على الرمال ..
ولم يكن الشيخ عبد العليم يمنع ابنه من هذه اللعبة لأنها اللعبة الوحيدة التى يلعبها وهو يرافق والده إلى العزبة ..
وكان الشيخ عبد العليم قد فرغ من محاسبة الفلاحين وانصرفوا لحالهم .. ونهض ليصلى الظهر ..
وفجأة سمعنا غلاما يصيح :
ـ الحقوا حسن .. ابن عبد العليم بيه ..
وتصورناه غرق .. فجريت مع والده إلى الشاطىء وخلفنا كل من سمع الخبر من الفلاحين .
وعندما وصلنا إلى رأس المنحدر ونظرنا إلى أسفل .. تسمرت أقدامنا واتسعت أحداقنا من الرعب وخشنا إن قمنا بأى حركة أن تقع الفاجعة فقد كان هناك شىء أرقش ضخم .. قد التف حول نفسه واقترب من الماء ليبترد .. وكان حسن قد التصق بالجدار عند الشق الذى خرج منه الثعبان ومن الذعر الذى أصابه من الصياح ومن الحركة ..
ولم نكن ندرى عندما وقع نظرنا عليه أميت هو أم حى .. فقد كان متخشبا لايطرف .. وكان الثعبان يقطع عليه الطريق فهو لايستطيع النزول إلى الماء أو الصعود إلى الأرض .. ولم يكن فى الماء شىء .. سوى جاموسة ضخمة .. وكانت جاموسة مأمون .. ولم تكن تعير بالها لشىء مما حولها .. كانت باركة فى الماء وعلى خط مستقيم مع الثعبان .. وخشينا أن تتحرك فتدفع الثعبان إلى الحركة .. فتقع المصيبة وأخذنا بالمنظر وصعقنا فقد كان الثعبان أرقش ضخما ولم نر لطوله وضخامته مثيلا .. كان كأنما خرج من الجحيم ..
ولم نكن ندرى كيف نتحايل عليه ونقتله لأن أى حركة تنبهه سيكون معناها .. موت الغلام .. وشعرت كأن سيالا كهربائيا يسرى فى جسمى كله فارتعشت .. وخيل إلىّ .. أن هناك أكثر من ثعبان .. يزحف على الأرض التى تحتى .. ويخرج من الشقوق .. فكنت أرفع رجلى وأخفضها وأنفض قدمى .. وأنا واقف وأتلفت حولى فى ذعر .. وتصورت أحد هذه الثعابين قد التف حول عنقى ..
وفى غمرة هذه التصورات المفزعة ألقى أحد الفلاحين حجرا ضخما على الثعبان .. وكان من المحتمل جدا أن يمضى كل شىء فى سكون لولا هذه الحركة الطائشة .. إذ أن الثعبان كان سيعود إلى جحرة دون أن يؤذى أحدا ولكن بعد الحجر الذى ألقى عليه وأخطأه .. تحرك ورفع صدره ورأسه لينتقم .. واتجه إلى الغلام ..
وصاح الجميع واضطربوا وصاح الشيخ عبد العليم وهو يمد مسدسه بيد مرتعشة ولا تنطلق منه النار :
ـ اضرب .. يا حسان اضرب ..
ـ الرصاصة حتصيب ابنك والجاموسة .. ولا أحد يمكن أن يصيب رأس الثعبان وهو يتحرك هكذا ..
ـ اضرب يا واد اضرب ..
وغشيتنا الغاشية .. ولم نعد نرى وأصبح الغلام بين فكى الثعبان كما صور لنا الذعر والاضطراب .. وفى تلك اللحظة الحاسمة دوت رصاصة خلفنا .. رصاصة واحدة .. وسقط الثعبان والجاموسة معا وتلفتنا إلى مصدر النار .. فرأينا مأمــون .. واقفـا على الجرف وحده .. وبيده بندقيته القصيرة ..
وكنا جميعا نعرف أنه لا أحد غيره يمكن أن يطلق مثل هذه الرصاصة .. ويصوب مثل هذا التصويب .. لا أحد غيره على الاطلاق ..
وعندما ضم الشيخ عبد العليم ابنه إلى صدره وأخرج ثمن الجاموسة لمأمون .. رمى مأمون الأوراق المالية على الأرض باحتقار .. وانطلق فى الطريق وحـده حانيا رأسـه كأنه ما فعل شيئا ..
ولم أر الشيخ عبد العليم محتقرا ذليلا كما رأيته فى تلك الساعـة .
=================================
نشرت القصة فى صحيفة الأهرام المصرية 1611956 واعيد نشرها فى مجموعة الأعرج فى الميناء 1958وفى كتاب قصص من الصعيد من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق